إذاً نقول الحق، نجتهد في طاعة الله، نعلي كلمة الله، نجاهد في سبيل الله عز وجل، ننشر دين الله بكل ما نستطيع، وإذا أهمنا أي أمر نذكر الموت؛ لأن ذكر الموت يهون كل مصيبة، وهذه من فوائد ذكر الموت -وهي كثيرة- فإذا فاتك شيء من الدنيا حزنت وتألمت، لكن إن تذكرت الموت فإن المصيبة تهون عليك، ولهذا كان الناس يكتبون على بيوتهم أو على أمورهم:
نفسي التي تملك الأشيـاء ذاهبة فكيف أبكي على شيءٍ إذا ذهب فلو ذهب شيء فأنت إلى موت، وأي شيء يحدث لك فالموت يهونه. ومن فوائد الموت أيضاً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الجنازة، أو ذكر حال أهل الجنائز: (
مستريح ومستراح منه )، فلولا الموت ما حصلت مستريح أو مستراح منه، إذ إن كل من يخرج من هذه الدار إما مستريح، أي: خرج من دار النكد والهم والغم والمحنة والابتلاء والفتنة إلى الراحة إلى الجنة، وإما مستراح منه، أي: فاجر شرير، وأول من استراح منه أهله وجيرانه وزملاؤه، بل كل من كان تحت يده ممن قد يظن أنهم أقرب الناس إليه، فيقولون: ارتحنا من ذلك الرجل، وإن كانوا لا يظهرونها، لكن واقعهم يقول ذلك، ولهذا انظروا الفرق بين الأثر الصالح والأثر الخبيث، قال تعالى: ((
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ))[يس:12]، وقد كان بعض السلف الصالح يتصدق، وكانت حياتهم لله، وما كانوا مثلنا، بل يعملون أعمال بر خفية لا يعلم بها أحد، بل لا يعلم الناس من كان يتصدق عليهم إلا إذا مات، فالأرملة تلك لم يعد يأتيها أحد، وقد كانت تقول: كان أحدهم يطرق عليَّ الباب في الليل، ولا أدري من هو؟ وهذا يقول: كنت أمشي فأجد شيئاً في الطريق، وهذا يقول كان واحد يقدم لي كذا، فانقطعت الأعمال الخيرية لما مات فلان، فعرفوا أنه هو. وفي المقابل بعض الناس يقول: كان يأتيني أذى، مصائب، ثم بعد ذلك ارتحت، فجلست أفكر فعرفت أن فلاناً قد مات، فقلت: ارتحنا منه، وهكذا الدنيا مستريح قدم الخير والناس يذكرونه بالخير، ومستراح منه بموته وانقطع الشر عن الخلق، وبالتالي فالموت خير ومصلحة، وفيه حكم عظيمة، والواجب علينا نحن المؤمنين بالله وباليوم الآخر أن نجعل من هذا الموت حافزاً ودافعاً على الخير، وعلى العمل الصالح، وأن نذكر أنفسنا وإخواننا وأهلينا دائماً به، ولنذكر تلك الوصية الجامعة: (
إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) فهذه الدنيا ليست دار قرار، وإن وسع الله عليك ما وسع، وإن جمعت ما جمعت، لكن خذ منها وتزود منها، ونعم المال الصالح للعبد الصالح، لكن ليست لك بدار قرار، فأعد العدة لما عند الله تبارك وتعالى، وبهذا المعنى يصبح الموت واعظاً وزاجراً عن ارتكاب ما حرم الله، أو الغفلة عن طاعة الله، وفي نفس الوقت يصبح حافزاً ودافعاً لأعمال من الخير والبر، لكن قد يقول قائل: أخشى أن أموت الليلة، ولم أجاهد، ولم أقل الحق، ولم آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.إذاً قدِّم أعمالاً صالحة، فإن خوفت من دون الله، فوالله ما تدري إذ يمكن أن يأتيك الموت من عند الله قبل أن تأتيك الفتنة التي يُظن أن الناس يفتنونك بها، وبالتالي فلماذا تخاف؟! ولذلك كان دعاة الخير والإصلاح في جميع العصور بمقدار إيمانهم باليوم الآخر، فيقدمون على قول الحق بالحكمة -وهذا قيد لا يحتاج أن نكرر ذكره- موقنون بأن الله تبارك وتعالى هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الذي عنده خزائن كل شيء، وهو الذي ((
مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ))[هود:56]، وهو الذي يدبر الأمر، وكل شيء بيده، وبالتالي إذا أمرنا بأمر فلا بد أن نطيعه، وأن ندعو بدعوته، وأن ننفذ أمره ولن يضيعنا، ولذلك كما نرى في حياتهم أنهم دعوا إلى الله، فمنهم من قتل، ومنهم من أحرق كما فُعل بأصحاب الأخدود، وكل نبي قد ابتلي وأوذي، وفي النهاية تكون لهم العاقبة، فيموتون ولكن يموت أعداؤهم، ولو فرضاً -وهذا قليل- أن أعداءهم انظروا وأُمهلوا بعدهم؛ فإنهم لا بد أن يموتوا أيضاً, ولكن فرق عظيم جداً، ولهذا لما ذكر
ابن القيم رحمه الله في
مدارج السالكين أبيات الطبيب
أبي زكريا الرازي الملحد، إذ إنه شبه الورود: (أن الناس كلهم مثل من سافر إلى مدينة وما دخلها، وكذلك الموت؛ إذ إن الناس سافروا فدخلوا مدينة وانتهى الأمر)، يقول
ابن القيم رحمه الله: (يا ويل! هذا المسكين، هل قادم كقادم؟) أي: لو كنت عند بوابة
جدة ، وهناك أناس قادمون من الخارج، فكلهم داخلين البلد، لكن منهم من يأتي وهو معزز مكرم، ينصب -مثلاً- ملكاً أو أميراً، أو سيتزوج في ليلته، أو له ثروة عظيمة، ومنهم من يدخل مغلولاً ذليلاً مقيداً، ففي الظاهر أن الناس كلهم يموتون فيخرجون من الدنيا، لكن الورود أو القدوم مختلف، فليست العبرة بما يظهر فقط من الحال أن كل الناس يموتون، وبالتالي يفعلون ما يشاءون، لا، ففرق بين موت وموت، وبين حياة وحياة، وبين قدوم وقدوم، والعاقل يتخير والله سبحانه وتعالى أعطاه العقل، فليختر العاقل خير السبيلين: ((
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ))[الإنسان:3]، فليختر كل واحد منا، وأوصي نفسي وإخواني -وهذا ما لا يخفى على أحد منكم إن شاء الله- أن نختار طريق الحق والخير والصلاح وما يقربنا من الله تبارك وتعالى؛ لننال ولاية الله.وبهذا نكون قد انتهينا من شرح حديث الولي ضمن موضوع الولاية، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من أوليائه الصالحين، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.